الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
والواو واو الحال. و{تُؤْمِنْ} معناه إيمانا مطلقا، دخل فيه فضل إحياء الموتى. {قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا. والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: «ثم اركع حتى تطمئن راكعا» الحديث. وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الأحياء غير محظور، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها إذ هي فكر فيها عبر فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الأحياء.وقال الطبري: معنى: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ليوقن، وحكى نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكى عنه ليزداد يقينا، وقاله إبراهيم وقتادة.وقال بعضهم: لازداد إيمانا مع إيماني. قال ابن عطية: ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر وإلا فاليقين لا يتبعض.وقال السدى وابن جبير أيضا: أولم تؤمن بأنك خليلي؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي بالخلة.وقيل: دعا أن يريه كيف يحيى الموتى ليعلم هل تستجاب دعوته، فقال الله له: أو لم تؤمن أنى أجيب دعاءك، قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي أنك تجيب دعائي. واختلف في المحرك له على ذلك، فقيل: إن الله وعده أن يتخذه خليلا فأراد آية على ذلك، قاله السائب بن يزيد.وقيل: قول النمروذ: أنا أحيى وأميت.وقال الحسن: رأى جيفة نصفها في البر توزعها السباع ونصفها في البحر توزعها دواب البحر، فلما رأى تفرقها أحب أن يرى انضمامها فسأل ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع كما رأى كيفية التفريق، فقيل له: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} قيل: هي الديك والطاوس والحمام والغراب، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، وقاله مجاهد وابن جريج وعطاء بن يسار وابن زيد.وقال ابن عباس مكان الغراب الكركي، وعنه أيضا مكان الحمام النسر. فأخذ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا صغارا، وخلط لحوم البعض إلى لحوم البعض مع الدم والريش حتى يكون أعجب، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الاجزاء وأمسك رءوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الاجزاء وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش حتى التأمت مثل ما كانت أولا وبقيت بلا رءوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا، أي عدوا على أرجلهن. ولا يقال للطائر: سعى إذا طار إلا على التمثيل، قاله النحاس. وكان إبراهيم إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر، وإذا أشار إليه برأسه قرب حتى لقى كل طائر رأسه، وطارت بإذن الله.وقال الزجاج: المعنى ثم أجعل على كل جبل من كل واحد جزءا. وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو جعفر {جزوا} على فعل. وعن أبى جعفر أيضا {جزا} مشددة الزاي. الباقون مهموز مخفف، وهى لغات، ومعناه النصيب. {يَأْتِينَكَ سَعْياً} نصب على الحال. و{فَصُرْهُنَّ} معناه قطعهن، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو عبيدة وابن الأنباري، يقال: صار الشيء يصوره أي قطعه، وقاله ابن إسحاق. وعن أبى الأسود الدؤلي: هو بالسريانية التقطيع، قال توبة بن الحمير يصفه: أي يقطعها. والصور: القطع.وقال الضحاك وعكرمة وابن عباس في بعض ما روى عنه: إنها لفظة بالنبطية معناه قطعهن.وقيل: المعنى أملهن إليك، أي اضممهن واجمعهن إليك، يقال: رجل أصور إذا كان مائل العنق. وتقول: إنى إليكم لاصور، يعني مشتاقا مائلا. وامرأة صوراء، والجمع صور مثل أسود وسود، قال الشاعر: فقوله: {إِلَيْكَ} على تأويل التقطيع متعلق ب {فَخُذْ} ولا حاجة إلى مضمر، وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق ب {فَصُرْهُنَّ} وفى الكلام متروك: فأملهن إليك ثم قطعهن. وفيها خمس قراءات: اثنتان في السبع وهما ضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء. وقرأ قوم {فصرهن} بضم الصاد وشد الراء المفتوحة، كأنه يقول فشدهن، ومنه صرة الدنانير. وقرأ قوم {فصرهن} بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة، ومعناه صيحهن، من قولك: صر الباب والقلم إذا صوت، حكاه النقاش. قال ابن جنى: هي قراءة غريبة، وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعل بضم العين، كشد يشد ونحوه، ولكن قد جاء منه نم الحديث ينمه وينمه، وهر الحرب يهرها ويهرها، ومنه بيت الأعشى: إلى غير ذلك في حروف قليلة. قال ابن جنى: وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد. القراءة الخامسة {صرهن} بفتح الصاد وشد الراء مكسورة، حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة، بمعنى فاحبسهن، من قولهم: صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة. وهنا اعتراض ذكره الماوردي وهو يقال: فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}؟ فعنه جوابان: أحدهما أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاص يصح معه بقاء التكليف.الثاني أن الأحوال تختلف فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفى وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن.وقال ابن عباس: أمر الله تعالى إبراهيم بهذا قبل أن يولد له وقبل أن ينزل عليه الصحف، والله أعلم.
وحبة القلب: سويداؤه، ويقال ثمرته وهو ذاك. والحبة بكسر الحاء: بذور البقول مما ليس بقوت، وفي حديث الشفاعة: «فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل» والجمع حبب. والحبة بضم الحاء الحب، يقال: نعم وحبة وكرامة. والحب المحبة، وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضا الحبيب، مثل خدن وخدين وسنبلة فنعلة من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالاسبال.وقيل: معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه. والجمع سنابل. ثم قيل: المراد سنبل الدخن فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد.قلت: هذا ليس بشيء فإن سنبل الدخن يجئ في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر، على ما شاهدناه. قال ابن عطية: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، فأما في سائر الحبوب فأكثر ولكن المثال وقع بهذا القدر.وقال الطبري في هذه الآية: إن قوله: {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} معناه إن وجد ذلك، وإلا فعلى أن يفرضه، ثم نقل عن الضحاك أنه قال: {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة. قال ابن عطية: فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال، وذلك غير لازم من قول الضحاك.وقال أبو عمرو الداني: وقرأ بعضهم {مائة} بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة.قلت: وقال يعقوب الحضرمي: وقرأ بعضهم {في كل سنبلة مائة حبة} على: أنبتت مائة حبة، وكذلك قرأ بعضهم {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ} على {وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ} وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي {أنبتت سبع سنابل} بإدغام التاء في السين، لأنهما مهموستان، ألا ترى أنهما يتعاقبان. وأنشد أبو عمرو: أراد الناس فحول السين تاء. الباقون بالإظهار على الأصل لأنهما كلمتان.الرابعة: ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف. واختلف العلماء في معنى قوله: {وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ} فقالت طائفة: هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة. وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف.قلت: وهذا القول أصح لحديث ابن عمر المذكور أول الآية.وروى ابن ماجه حدثنا هارون بن عبد الله الحمال حدثنا ابن أبى فديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسن عن علي بن أبى طالب وأبى الدرداء وعبد الله بن عمرو وأبى أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم- ثم تلا هذه الآية- والله يضاعف لمن يشاء الله». وقد روى عن ابن عباس أن التضعيف ينتهى لمن شاء الله إلى ألفى ألف. قال ابن عطية: وليس هذا بثابت الاسناد عنه.الخامسة: في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ} الآية. وفى صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة».وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «التمسوا الرزق في خبايا الأرض» يعني الزرع، أخرجه الترمذي.وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النخل: «هي الراسخات في الوحل المطعمات في المحل». وهذا خرج مخرج المدح. والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الامام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار. ولقى عبد الله بن عبد الملك ابن شهاب الزهري فقال: دلني على مال أعالجه، فأنشأ ابن شهاب يقول: وحكى عن المعتضد أنه قال: رأيت علي بن أبى طالب رضي الله عنه في المنام يناولني مسحاة وقال: خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض.
|